“كورونا وإماطة اللثام عن العقل العربي الجمعي”

محمد الورداشي

فيروس كورونا (كوفيد 19) كشف الأوهام وأماط اللثام عن قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية، لكنه كشف الكثير عن العقل العربي أكثر من غيره. ففي هذه المدة الوجيزة التي شرع فيها هذا الوباء ينتشر في بلدان عربية (الجزائر، تونس، المغرب، مصر…) حدثت هزة كبيرة في العقل الجمعي العربي، كما في الجانب البسيكولوجي والسوسيولوجي. اما في جانب العقل الجمعي، فإنه بدا واضحا أن الأفراد والجماعات، في المجتمعات العربية، تمتلك وسيلة مثلى للتعامل مع الأخطار التي تهدد الجسد الاجتماعي وكيانه، فأن تجد منشورات كوميدية ونكتا حول فيروس منتشر أقام الدنيا في بلدان اقتصادية عظمى ولم يقعدها، دليل على مدى تخلفنا، وقلة منسوب وعينا إلى الدرجة الصفر، حتى بلغ الأمر بنا أن نستخف بالخطورة، ونترجمها إلى نكت تبكي أكثر مما تضحك. وفي الفترة التي يتفنن العقل العربي الجمعي في نحت النكت، ونسج خيوط الكوميديا السوداء للتسلية والترويح عن النفس حتى حين كان مجيئه مؤكدا، ظل الوباء يسري بيننا كسريان النار في الهشيم، لتأتي الصحوة المتأخرة بعدما لم يعد ينفع المرء لا بكاء ولا عتاب سوى وجوده أمام التحدي الواقع وجها لوجه. على أن هذه السخرية والاستخفاف بالوباء من قبل العقل الجمعي لم تكن وقفا على العوام من الشعب الذين يعانون أوبئة من نوع آخر طاب لها المقام بينهم فأقامت، بل إن الأمر يضرب بجذوره في العمق لدى القائمين على الشأن السياسي والصحي، هذا الجانب الذي لجأ إلى نسج خطاب مهدئ تسكيني حتى حين، وما فتئ يدعو الأفراد والجماعات إلى تناسي الوباء، وتقديم الوعود أن لنا من التجارب والخبرات الطبية ما يجعلنا نتعامل مع الأمر الجلل ببساطة؛ أي أننا مجندون لأي طارئ بأسلحة طبية… في اللحظة التي نرصد فيها مجهودات الصينيين، جماعات وأفرادا، وحاكمين ومحكومين، تبذل الكثير في سبيل المصلحة العامة. هذا عن جانب العقل الجمعي. أما الجانب النفسي والاجتماعي، والذي سأركز فيه على المغرب، فإنه قد كشف عن انقسام المجتمع إلى قسمين: قسم يرجع الأمر إلى حروب بيولوجية ومناعات بين الدول الاقتصادية العظمى، وقسم آخر يرى أن ثمة تفسيرا واحدا للوباء، وهو بعدنا عن الله، وأن هذا لا يعدو كونه اختبارا إلهيا لعباده، ونذيرا غاضبا عن أنهم عاثوا الفساد في الأرض. لكننا نرى أن هذا الوباء لم يشمل الدول العربية والإسلامية التي تدين بدين الإسلام، وإنما شمل حتى الدول التي لا تؤمن بالله الواحد المتعالي… وهذا التفسير الديني لدى القسم الثاني، أعرب لنا عن فئة تحتمي بترديدها: “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”، كما أننا نتوضأ في اليوم خمس مرات و… مما يدل على جهلها بخطورة الأمر. لكن ما حدث يوم أمس، في التسابق والتطاحن على المواد الغذائية بغية تخزينها واحتكارها ترقبا لأي قرار يحظر الخروج من المنازل، دليل على أن ثمة غريزة لم يستطع الإنسان أن يدبرها بعد علما أنه أعلن انفصامه عن قانون الغاب، وهي كونه أنانيا مؤثرا حياته على حساب الآخرين، وأنه لم يستفد شيئا من الموجات الفكرية الحديثة والمعاصرة سوى أن يكون “حيوانا مستهلكا” ومفرطا في الاستهلاك. كما أننا نفيد حقيقة كانت وستظل الى أن يرث الله الأرض ومن عليها: وهي أن الغني لا يفكر للفقير أبدا. فعلاوة على تسابقهم في اقتناء أكبر قدْر ممكن من المواد الغذائية، نجد هذا الصباح منهم من يتسابق معك على المصرف البنكي حتى يسحب كل ما فيه، تاركا لك الفراغ. فقد انتظرت كثيرا حتى انتهى الجميع ليخاطبني آخر شخص منهم قائلا: “حاول تيري لماكسيمون ديال الفلوس متعرفش الوقت شنو تجيب “. قال هذا الكلام وهو يضحك في وجهي، لكني ضحكت مرتين: أولاهما عليه وعلى حاله المتلهفة الأنانية التي تتبنى مبدأ “أنا ومن بعدي الطوفان” واللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا”. وثانيهما ضحكت فيها على حالي؛ لأن في حسابي مائة درهم تعد مصروف اليوم. وهذه الأنانية لم تقف هنا فحسب، وإنما نجدها في قرار توقيف الدراسة ابتداء من يوم الإثنين المقبل، ليعقب هذا القرار مذكرات وأخبار تقول إن توقيف الدراسة خاص بالتلاميذ وحدهم لا أطر التدريس التربوية والإدارة، بمعنى أنهم معنيون بالحضور إلى المؤسسات حتى وإن لم يكن ثمة تلاميذ. ولا أجد لهذا الأمر الارتجالي إلا تفسيرين اثنين: الأول هو أن مصلحة المعنيين بالأمر ضربت عرض الحائط، ولا يعلم بها إلا الله وحده، وأنهم مصنوعون من الحجر لا من لحم ودم، والثاني أن أجورهم مرتبطة بحضورهم وعملهم حتى وإن كان الأمر على حساب حياتهم، علما أن قرار توقيف الدراسة قابله الأطر التربويون باستعدادهم لخدمة أبنائهم التلاميذ بكل ما توفره لهم شروطهم الذاتية والموضوعية. إن المرحلة الحرجة التي تمر منها البلاد تتطلب تعاونا وتآزرا، وتفكيرا في المصلحة العامة لا الشخصية، وفي حياة الإنسان قبل حياة الاقتصاد والسياسة، كما أنها تتطلب وضوحا وشفافية بين القائمين على الشأن السياسي والصحي، والشعب، حتى يتجند الجميع لمواجهة الخطر في خط واحد ثابت، وفي مختلف المستويات… ختاما نتساءل: إذا كان هذا الوباء بلاء وابتلاء من الله، فهل يكفينا التجمع في المساجد، ورفع الأكف إلى الله ليزيل عنا البلاء؟ ألا يعد هذا التجمع التعبدي لأداء شعيرة مهمة، سبيلا للعدوى بين المتجمعين؟ هذا السؤال يخص الفئة الثانية التي ترى أن الوباء “كورونا” غضبٌ إلهيٌّ. كما أننا نتساءلمع الفئة الأولى، التي ترى الأمر حربا بيولوجية وحرب مناعات: هل سينتج عن هذا الوباء قلب موازين القوى بين الدول الاقتصادية الصناعية العظمى؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه تصفيات حسابات اقتصادية ستنتقل عدواها إلى الأجيال القادمة؟


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني