المساكن الوظيفية.. عوالم خفية

بقلم : بوشعيب حمراوي

تحولت المساكن الوظيفية بكل القطاعات العمومية، إلى علب سوداء وعوالم خفية تحكمها المحسوبية والزبونية والولاءات الحزبية والنقابية. تدار بأجهزة تحكم عن بعد، خارج قوانين وأنظمة الإدارات المعنية. عوالم خفية، حيث التسيب و الفوضى في عمليات الاستفادة، والتلاعب في أموال إصلاحها وصيانتها. وحيث صعوبة إفراغ المستفيدين المنتهية مهامهم. مجموعة من المستفيدين يرفضون إفراغ المساكن الوظيفية. ويسلكون طرق وأساليب ملتوية من أجل الاستمرار في احتلال تلك المساكن رغم تقاعدهم النسبي أو النهائي أو انتقالاتهم لأماكن أخرى، أو إنهاء مهامهم أو عزلهم … أو حتى تغيير وظائفهم ومهامهم. بعضهم يبادرون إلى استخراج وثائق تثبت أن تلك المساكن غير وظيفية أو تابعة لقطاعات أخرى غير التي يعملون تحت إداراتها. يسعون وراء الحيازة والتملك، وحرمان زملائهم الموظفين الجدد، من إمكانية الحصول على مساكن وظيفية يفرضها القانون، وطبيعة أعمالهم ومسؤولياتهم. فيما يهمل مستفيدون آخرون صيانة وتأهيل مساكنهم الوظيفية، أو يتعمدون تخريبها انتقاما قبل مغادرتهم لها.
آلاف المساكن الوظيفية محتلة بالقوة أو بالتواطؤ أو بتزوير الوثائق، فيما الموظفين المعنيين بالاستفادة منها، يحالون على دور الكراء. ويحرمون من حقوقهم المشروعة، كما يحرمون من امتيازات أخرى تمنحها المساكن الوظيفية. منها القرب والمحيط و الحماية و…
بكل مدينة أو منطقة حضرية أو شبه حضرية، هناك مساكن وظيفية لفئات كثيرة من موظفي وزارة الداخلية (قواد، باشوات، رؤساء دوائر، رؤساء مصالح .. حراس مرافق الوزارة، .. ). لكننا نجد أن تلك المساكن محتلة من طرف من سبقوهم في نفس المناصب. منها المتقاعدين، ومنهم المنتقلين لمناطق أخرى، وهناك من انتقل للعمل بوزارة أخرى (الخارجية، التعليم..). بل هناك مساكن وظيفية محتلة من طرف الورثة . فيما يضطر الموظف المعين حديثا إلى تدبير أمور سكنه ومواجهة سيل من المعاناة والمشاكل المترتبة عنها. ما يقع للمساكن الوظيفية لوزارة الداخلية، يقع داخل كل الوزارات (التربية الوطنية والتعليم العالي، الفلاحة والصيد البحري، المالية، الصحة، التجهيز والنقل، السكن، ..). وكذا للمساكن الوظيفية الخاصة بالجماعات الترابية وباقي المؤسسات العمومية والشبه عمومية. بل إن هناك وزارات ومؤسسات لم توفق حتى في جرد وإحصاء عدد ونوعيات مساكنها الوظيفية. ولم تضع أية مخطط لتقنين عمليات الاستفادة منها. أكثر من هذا وذاك. فهناك مسؤولين محليين وإقليميين وجهوييين ومركزيين، يعمدون إلى التستر على بعض المساكن الوظيفية. بعدم الإعلان عن شغورها. أو بتزوير صفة محتليها، أو بإعداد مساطر وهمية لتمليكها. بل إن هناك مساكن وظيفية شبيهة بالقصور. يتم الاستحواذ عليها بطرق ملتوية. فتتحول بقدرة (قذر) وليس قادر. إلى مساكن ثانوية (سياحية أو ترفيهية أو ..)، لمسؤولين سابقين، كانوا مستفيدين في إطار مهامهم.
كيف يعقل أن يفاجأ مدير مؤسسة تعليمية أو مقتصد، أو حارس عام للداخلية أو الخارجية… عند انتقاله إلى مؤسسة تعليمية ثانية، أن مسكنه الوظيفي محتل من طرف موظف لا علاقة لهم بتلك المؤسسة التعليمية. أو من طرف زميله الذي جاء من أجل تعويضه. وكيف يعقل أن يتم التستر على منازل وظيفية داخل مدرسة ما. من أجل فرض استمرار احتلالها من طرف موظفين من خارج تلك المدرسة. فتجد مدير المدرسة أو المقتصد أو الحارس العام، محروم من سكنه من حقه. فيما يتم استغلال المنزل من طرف غرباء يزاولون مهام تعليمية خارجية أو متقاعدين.
وكيف يعقل أن يتم تعيين قائد أو باشا أو كاتب العام عمالة أو .. بمدينة ما. فلا يجد مسكنا وظيفيا له. فيما تجد عشرات المنازل الوظيفية الخاصة بهم، مستغلة من طرق زملاء لهم أنهوا مهامهم بالانتقال أو التقاعد ؟ ..
وكيف يعقل لمسؤول استفاد من سكن وظيفي خلال مزاولته لمهامه, على أساس أنه معفي من أداء سومة كراء السكن. أن يقوم باستخراج وثائق جديدة على أساس أنه يكتري المنزل من مديرية الأملاك المخزنية. ويداوم على أداء سومة كراء رمزية للدولة. على أساس أن يستعمل تلك الوثائق كحجة ودليل على أنه لا يستفيد من السكن الوظيفي، وأنه يكتري منزلا من مديرية الأملاك المخزنية .. وغالبا ما يعتمد على وثائق تثبت أن المنزل الوظيفي غير تابع لإدارته؟ ..
وكيف يعقل أن يحرم مدير مستشفى أو طبيب رئيسي، أو مقتصد.. من سكن وظيفي بني من أجله داخل المستشفى. وأن تجد مساكنهم محتلة من طرف أطر طبية عملت سابقا بالمستشفى أو تؤدي مهاما طبية أو إدارية خارج المستشفى. علما أنه من المفروض واللازم التواجد الدائم للمدير والمقتصد وأطباء داخل المستشفى. وأن هذا ما جعل الوزارة الوصية توفر لهم السكن الوظيفي؟.
إنها نماذج من بين أخرى كثيرة ومتعددة، تؤكد ما يجري ويدور داخل تلك العوالم الخفية. مشاكل ومعاناة وحرمان .. تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في العطاء المهني والأخلاقي لمجموعة كبيرة من الموظفين، وتضعف خدمات عدة مرافق.
عوالم المساكن الوظيفية، يخفي كذلك، ما يتم من استغلال فاضح لعتاد وممتلكات المرافق العمومية والشبه العمومية، التي تحضن السكن الوظيفي. وخصوصا الاستفادة المجانية من عمليات التزود من الماء والكهرباء والهاتف والانترنيت.. وقد سبق للدولة أن فرضت على المستفيدين من السكن الوظيفي، أن يتحملوا مصاريف التزود بالماء والكهرباء. وأن يلجئوا إلى المصالح المختصة محليا من أجل ربط منازلهم بعدادات خاصة بأسمائهم. لكن هناك العديد من قاطني السكن الوظيفي يستمرون في استغلال مياه وكهرباء المرافق التي يعملون بها. كما لا يتردد بعضهم في الانتفاع الشخصي والأسري بكل ما يمكن أن توفره تلك المرافق العمومية التي يديرها أو يعمل داخلها.
لتبقى تلك العوالم جد مكلفة ماليا ومهنيا. ومحبطة للأطر الجادة. ويبقى السبيل الوحيد لتنقيتها وتطهيرها. هو إحداث لجن حكومية أو برلمانية أو مختلطة. من أجل جرد وإحصاء كل المساكن الوظيفية. وإفراغ المحتلة منها. ووضع شروط ومعايير دقيقة للاستفادة منها. وقوانين واضحة، توجب الإفراغ وفق آجال محددة. وتفادي إحالة ملفاتها على القضاء. حيث المساطر الطويلة والأحكام المتأخرة، التي تضر بسير المرافق العمومية. وتفقد الوظيفة أحد أهم وأبرز مكاسبها المتمثلة في الاستفادة من السكن الوظيفي. والذي غالبا ما يكون الحافز الأكبر للقبول بالوظيفة أو المسؤولية.


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني