ملاحظتنا على بيان الودادية الحسنية للقضاة الذي يؤسفني أن أقول بأنه بيان كتب على عجل ولم يشف غليل البلاغة الفذة وحسن التخلص وتمام الاستدلال وبراعة الرشق وقوة الاقناع التي تطبع عادة لغة القضاة وحنكة رجال القانون، بل كان بلاغا أقرب إلى عتاب ودود منه إلى مطرقة القضاء التي فيها فصل المقال وقوة العارضة ووضوح القصد.
وطبعا عندما تكون قويا مهاب الجانب وتُنزل بخصمك ردا مهلهلا فإن ذلك يعطيه انطباعا خاطئا بأنه قوي متماسك، كما أن مقامكم أكبر من أن تنزعوا إلى استدعاء مقاربات القضاء الفرنسي مع الإسراف في التبرير وأنتم تمثلون قضاة المملكة وتقفون على نفس الدرجة والندية ممن ضربتم لهم المثل، إنكم كبار في عيون المغاربة وستضلون كبارا لأنكم ركن الدولة ولا يملك أي كان أن يجعلكم يوما تخفضون البصر.
أعلم جيدا مداخل هذا الفخ، فالقاضي كبير النفس شريف النية والوسائل، ليس له دهاء السياسي والتواءه وتعدد مآربه وهو يتعامل مع الأحداث بمنطق الربح والخسارة بلغة الغنيمة واقتناص الفرص، غاياته السياسية تبرر له وسائله الدعائية غير الشريفة غالبا.
القاضي مثل العسكري يبلي بلاء في منازلة العدو ويثخن فيه ببراعته في التخطيط وخبرته بفنون النزال واستراتيجيات الكر والفر ويحمل على أكتافه شرفه الوطني على الميدان، لكنه عندما يعود إلى المدينة ويخالط الناس في الأسواق؛ فإن بائع خضر خبيث بمقدوره أن يلحق بهذا الفارس النبيل أنكر الهزائم ويسلبه من المال أضعاف ما تساويه بضاعته المدخولة التي يعرضها على الناس.
وهذا ما حدث لقضاة الودادية مع زعيمة حزب الاشتراكي الموحد؛ إذ استغلت الدهاء السوقي لتمص ما أمكنها من دماء البيان لصالح الدعاية لنفسها وترويج صورة المناضلة الطهرانية الثائرة.
فالبيان عندما يخرج إلى العلن فإنه يصبح مشاعا للأقلام تتحكم فيه وتوجهه على غير إرادة كاتبه الأول، لذلك إن لم يكن مطرزا بعناية محصنا من أي شبهة استغلال فإنه يوشك أن تتناهبه العقول الموبوءة والضمائر المدخولة على نحو بالغ الخبث و الضرر، (أنظروا بلاغات الديوان الملكي تدركون الفرق).
لقد كانت ضربة حظ قدمها القضاة على طبق من فضة لامرأة تجيد الأكل من ثديها الثوري والنضالي، وطار بها البيان في الآفاق بين صحف المغرب والمشرق ليس لفضل فيها ولكن لأنها المرأة التي شرفتها الودادية دون غيرها بالرد عليها، المرأة التي نجحت في استفزاز رجال تسكنهم روح القانون وهيبته لتُرَكِّب على كتفيها جناحين وتضع على رؤوسالودادية قرونا حمراء.
إن عالم نبيلة منيب هو عالم يقوم على ثنائية الخير المطلق الذي تمثله والشر المطلق الذي يمثله خصومها، عالم انتهازي ينهل من أدبيات إرادة القوة والرغبة النيتشويّة التي تبشر بالصدام الحتمي وإغراق الجماهير بخيال العنف الخلاق؛ العنف كأداة للتغيير، والاعتقال كتجسيد للبطل الأسطوري.
كان لينين يقول:"عليكم أن تكرهوا"!
هي الكراهية إذن والتبشير بالموت الثوري الذي يتشارك فيه اليسار الراديكالي مع طوائف الإسلام السياسي الذي يستغل منظروه من جانبهم شعور أتباعهم بالذنب والتقصير لتوجيههم وفرض أجندتهم على الدولة؛ المجتمع على طريق الضلال وعليهم أن يعيدوه إلى الطريق الصحيح، كلمة السر هي الفوضى والتخريب على كافة المستويات. القضاء من هذه الزاوية يبدو مغريا لهذه التيارات بالنقد والازدراء والهجوم الممنهج.
نعلم جيدا أن الودادية أخذتها الحمية وهي محقة في شعورها بالغبن والإسفاف الموجه إليهافي ما نسبته السيدة منيب إلى القضاء من كلام اعتادت أن تلوكه هنا وهناك بمناسبة ودون مناسبة، لكن لذلك الهجوم المتعمد والمتواصل دوافعوبواعث؛ فهي تعلم أن حزبها الصغير فيه شركاء متشاكسون لا يلبثون يتفقون حتى ينهَدَّ بعضهم على بعض في نزق وتهور معهود في الحركات المحقونة بروح الثورة البلشفية وديكتاتورية البروليتاريا، وهي لذلك تحتاج إلى جمع شمل هذا الخليط الهجين من الشركاء الذين يتذبذبون بين معتدل براغماتي رصين يقرأ الواقع بعمق وروية، وشبه معتدل لا زالت تطارده مذكرات تروتسكي وحماسة التنظير الثوري، وراديكالي ميؤوس منه يرفض الاندماج.
وإذا نظرنا إلى الأمر بعد أن نجرده من الشوائب والعلائق والرسوم والشعارات؛ سنجد أنفسنا وجها لوجه مع مشهد مماثل على الضفة الأخرى حيث يقبع رهط الإسلاميين، نتحدث هنا على حزب البيجيدي والجماعة الصفراء؛ إذ نصادف هناك نفس هذه التموجات أو مستويات الخطاب: هناك الاسلامي الذي تخلص وإن ظاهريا عن فكرة تطبيق الشريعة وإقامة الحدود والدعوة للخلافة، وهناك الذي يتغاضى عن ذلك ظرفيا عملا "بفقه الواقع"، وهناك الأصولي الذي يتبنى نظريات سيد قطب.
طبعا هذه المستويات ليست بذات الوضوح في الجماعة الصفراء التي لازالت تغلب المستوى الثالث لأنها لم تحسم بعد النقاش في الوضع الذي ستتخذه مستقبلا نظرا للخلافات الداخلية الحادة بعد رحيل الرجل الذي كان له الأمر والنهي والحل والعقد، فبقيت كالمعلقة أو على الوضع الراهنstatus quo الذي تركها عليه الأب الروحي منذ وفاته.
لكن دعونا نعود إلى موضوعنا لنقول إن نبيلة منيب وفيدرالية اليسار عموما في المدة الأخيرة أخذت تنحو منحى أشد تطرفا وراديكالية، وتعمم خطابا يتعمد الاستفزاز ويغلب العدمية الفجة على روح الانصاف والاعتدال في التقييم وإصدار الأحكام، لم يعد للتعبيرات معنى مضبوط، الإسراف في الشتم والهذر، والمبالغة في التجني، والإسهال في إصدار البيانات البلشفية أصبح القاعدة.
ولن نكون بعيدين عن الصواب إذا قلنا إنها أصيبت هي الأخرى بلوثة الركوب على الأزمات الاجتماعية وتبني قضايا المخربين لتوسيع قواعدها الشعبية التي تعاني من خصاص شديد بسبب النكبة العامة التي لحقت باليسار منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وتحلّل الجيل الثوري.
وهنا تقع نبيلة منيب في حيص بيص، فحتى تُبقي على لحمة الفدرالية فإن عليها لزاما أن تتبنى خطابا معاديا لمؤسسات البلاد،حاد اللهجة شديد التقريع فاجرا في الخصومة؛ لأن ذلك يضمن لها رضا وتأييد الطبقة الأشد راديكالية في الفدرالية، وهي الطبقة المسيطرة، لكنها في ذات الوقت تفُتُّ في عضد الدولة وتضرب في صميم مقوماتها، تخل بالمبادىء الدستورية تتجاوز بنود العقد الاجتماعي وتوغل في ثوابت البلاد.
هنا وهنا فقط يصبح جزء من اليسار المغربي عن وعي أو عن غير وعي أداة غير مباشرة في يد القابعين وراء الستار يتحينون الفرصة؛ إسلاميوا الداخل ومن يوجههم في الخارج، الإسلاميون الذين رقصوا طربا للنزاع بين الودادية وزعيمة الفدرالية، لأن ذلك يسمح لهم بأن يحلحلوا عقدهم ويفشوا حنقهم و يكتبوا ما شاءوا عن القضاء على قفا نبيلة منيب.
فاليسار بالنسبة للإسلاميين مثل الشمعة التي يستضاء بها في النفق، حتى إذا أبلغتهم آخره وبزغ النور فهي نفخة واحدة من جحافل الجهاد تطفيء شمعة اليسار الخافتة وتسحقها تحت أقدام"جند الله".
هم يعلمون أنهم يملكون القوة المنظمة وأن اليسار الراديكالي ظاهرة صوتية تمكنهم من تسجيل دينامية اجتماعية وسياسية لا يمكن لهم تسجيلها لوحدهم في منأى عن قوى مدنية. يلعب اليسار الراديكالي دور "المحلل" وتكون نبيلة منيب بمثابة "التيس المستعار".
لقد بلغت الدولة درجة من التمدن والديموقراطية سمحتبخلق بؤر منفتحة و ثغرات واسعة جعلتها الدولة مجازات للانتقال الديموقراطي المعقلن والمتدرج، لكن الواقع يبرهن لنا كل يوم أنها ثغرات لا تمر منه إلا الكائنات العشوائية التي لا يخفى عن أحد مخططاتها الرامية إلى قلب نظام الحكم وإقامة نظام ثيوقراطي همجي على أنقاضه.
نقرع ناقوسا لا أحد يحب سماعه وسنظل نقرعه حتى يسمعوه، ونطلب دون جمجمة من الدولة أن تحافظ على توازن القوة وإذا أرخت أن تعرف أين ترخي وإذا شدت أن تعرف متى تشد، لأننا لازلنا في مراهقتنا الديموقراطية المشبوهة لا نثق في التيارات اللاعبة في جنح الظلام، و لا نضمن أن تتحول الأفواه الناعمة المنادية بالديموقراطية وحقوق الإنسان إلى فك تمساح قاتل يجرنا إلى أعماق البركة.
نقرأ الواقع وندرك أعماقه و القوى التي تحركه وتُرجف فيه وتصوغ رأيه العام، والسعيد من وعظ بغيره وفِي ظرفنا السياسي والاجتماعي الراهن نقول مطمئنين" ليس في الإمكان أحسن مما كان".
#الملكية هي الحل